القسم الأول من بحث:
بيوت من زجاج:
بحث ذو صبغة أدبية, غايته النفس, يرصد المؤثرات الروحية والمادية, والطبيعية, والمسلكية, في أربعة أجزاء يستهل أولاها, بمختارات من كلام بديع السموات والأرض, ويثني بباقة من كلام المصطفى, ويثلث ببعض أدوات الأدب, ونختم, ليبوح بعد ذلك كل جزء بما يكتنز من مؤثرات نفسية لا يقل دورها عن الخبز والماء والهواء...من أجل الحياة!
وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟!
هو أكرمُ الخلق, خُلِقَ له الخلقُ, وتزلفته,ملكوتُ السموات والأرض... وكثيرا لا يرضى!
مشاعره أرق من الهواء, وأكثر حِدّة من نفاذ الضوء في الفضاء.
تميته كلمة, ويميت أمة بكلمة!
هو الذي سجدت له الملائكة وأبى أكثر الناس لله السجود!
فما الذي يتناغم وفطرته, وما الذي يتقاطع؟
في بيوت من زجاج سنتعرض لنفحات وأعاصير المؤثرات لنرصد أكثرها أهمية, فيحيا بها الإنسان, وأكثرها ضررا لنتحاشاه تحاشي المرض المييت!
في بيوت من زجاج: ليس من النافلة في شيءٍ القولُ بأن المشاعر الإنسانية أشبهُ بالبيوت الزجاجية غير (المسكرتة) .. إلا فيما ندر ..
ذلك لأن الانعكاسات النفسية لموقفٍ مّا لا يمكن إلا أن تحدث دوائر ارتداديةٍ في مستنقع المشاعر الراكد ..
وبديهيٌ أن تتفاوت هذه الارتدادات بحسب المساحة الراكدة وبحسب المقذوف, ابتداءً من مثقال حبةٍ من خردل .. وانتهاءً بمثقال قنبلةٍ ذكيةٍ تذهب بالمشاعر وأهلها بأسرع من ردة الطّرف ..
وكم من الأفعال والأقوال التي تقع على المشاعر وقوع الصاعقة في يومٍ ماطرٍ عاصف ..
وبما أن لكل مخلوقٍ آدميٍ مشاعرُهُ ، وأحاسيسه ، وبما أنه يندرج تحت : " كما تدين تُدان " ، و:" كما تسلف تستوْفي " .. فمن العقل والبداهة أن يراعي كلَّ إنسانٍ مشاعر الآخر أو الآخرين ..
ولأنه مثلما يملك مقومات المبادرة للإثارة والتأثير الآن .. سيكون سواه الذي اكتوى بناره في موقع المبادرة في زمنٍ مّا ، وبطريقةٍ ما ..
حتى وإن لم يكن ضحيتّهُ مُبادراً .. فسيكون غيره من الذين يملكون فوق ما يملك ، ويرد لصاعه صاعين أو أكثر .. وعلى القياسِ ؛ وبشر القاتل بالقتل ولو بعد حين ..
وما أكثر أشكال القتل المعنوي وأدواته كالظلم ، والكبْت ، والحرمان ، والتهميش ، والإتباع ، والاستغلال بأنواعه التي لا تحصى ..
وهذا ما يجعل القتل المعنوي في الصدارة لأنه قتلٌ بالتقسيط المُريح .. ومدى الحياة أحياناً ..
ولعل فيما سبق تقديمٌ وافٍ لبحثٍ متشابك العناصر ، ومتعدد الروافد إلى درجة يستحيل على حاصٍ موسوعيٍ الإحاطةُ بها ؛ وذلك لشمولها على كامل منصات الإطلاق الحياتية التي تصوب جميعها إلى هدفٍ واحدٍ وحيدٍ ألا وهو المشاعر الإنسانية ..
تلك التي أبدعها الخلاق العظيم على هيئةٍ مطلقةٍ تستطيع التعامل مع الوافد المؤثر أياً كان ، وعلى أي وجهٍ كان ، ومن أي مصدرٍ كان .. سواءٌ من أقصى السلبية المجزعة ، أو من أقصى الإيجابية المفعمة بالسعادة والأمل .. وما بين الحالتين القطبين مدارجُ تستوعب طبائع ومشاعر الإنسان من المهد إلى اللحد ..
وإنني أرى أنه من المناسب أن أتطرق إلى بعض مصادر التأثير النفسيِّ والتي لا أجد بالمطلق شيئاً منها يتقدم على القرآن الكريم المعجز .. الذي أحكم الخلاق العظيم آياته فكانت في صميم أولي الألباب إلى قيام الساعة ..
وإذا كان للكلمة من فضلٍ فكفاها بديعُ السماوات والأرض صدارةً أشبه بصدارة الشمس على سائر الكواكب ..
فهي المنطلق مبنىً ومعنىً ، ومن أجل ذلك افتتح بها رب العالمين خاتمة الرسالات وذلك في قوله تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) } . سورة إقرأ .
ولأن القراءة تختزن أمهات المعارف وأصولَها, كان من لُطف ربِّ العلمين بعباده أن عظمها لتشرق بها شمسُ المعرفة من جديدٍ .. بإقرأ ..
ويقيني أن أقل المتأملين أمثالي .. لا يعودون من منهل القرآن الكريم إلا وقد تزودوا بغيثٍ يديم المئونة ، ويستر العورة ، ويضمن سلامة المسير .. وعلى الله القبول ..
وللمثال لا الحصر بعدما قدمنا بإقرأ .. سأجتزئُ من القرآن الكريم بعضه مثل قوله تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)}. النحل .. يوجد شاهد آخر
وقوله تعالى : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) } . فصلت ..
وقوله تعالى : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) } . آل عمران ..
وقوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) } . البقرة ..
وقوله تعالى : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) } . طه ..
وقوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) } . الزمر ..
ولو كان لمنصفٍ خصّبَ الإيمانُ قلبَه أن يقول فلا أظنهُ إلا أن يردد كلام بارئ الكون حيث قال سبحانه : { إنما بذكر الله تطمئن القلوب } .
وإذا اطمأنت القلوب زكت النفوس ، وتنوّرت العقول ، وخشعت الجوارح ، وعاش صاحبها تقياً عزيزاً كريماً عالي الهمة كله في سبيل ربه .. رسولا هادياً مهدياً .. لا يذلُّ إلا للعزيز الجبار .. رأسٌ في كل حياته وهو إمامٌ ومن خلفه العالمين ..
على أن للمعاملة الحسنة لُغةٌ بليغةٌ لا تقل عن لغة الكلام ، ومن ذلك قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)} . البقرة ..
والقرآن الكريم بوجهيه في ترغيبه وترهيبه .. تأثيرٌ بالغٌ لمن ألقى السمع وهو شهيد ..
وما الآيات التي تخاطب القلوب والعقول .. إلا شموسٌ في قلب الضُّحى لكل بصيرٍ من مثل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) } الحج ..
وللمزيد من تسليط الضوء على التأثير القرآنيِّ أحيل القارئ إلى بحث " البنيوية المعجزة " الذي يتناول ألفاظ نهايات الآيات ، ويربطها بأسماء الله الحسنى ، ويشير إلى عظيم تأثيرها في النفوس ، والقلوب ، والعقول ..
وإذا أخذت الأولوية ببعض الكلام المعجز الجامع .. فإنها على الترتيب ستثني ببعض قول الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي نُصر بالرعب ، وأوتي جوامع الكلم .. وكُلُّ قوله وفعله حكمةٌ ومنهجٌ وتوجيه ..
ومما جاء في الهدي النبوي الشريف " تبسُّمك في وجه أخيك صدقة " ، " ومسْحُك على رأس اليتيم صدقة " ، " وزيادة مرق طعامك لإهداء جارك المحروم صدقة " ، " ومن كان في حاجة أخيه .. كان الله في حاجته " ، " ومن فرّج على مؤمنٍ كربةً .. فرج الله بها عنه كربةً من كرب يوم القيامة " .. وكثيرٌ كثيرٌ مثل ذلك مما يشكل جبراً للخواطر ، وتمتيناً للأواصر ، وتطييبا للنفوس ، وتعظيما لمبدأ الإيثار والعطاء ، والتراحم بين الناس ، وحسن الخلق الذي أمر به ، وحضّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : (( خالق الناس بخلقٍ حسن )) .
وحسن الخلق بكل تأكيدٍ يشتمل على القول والعمل معاً .. وإذا قدمنا بشواهد حسن المعاملة سنختم بحسن القول الذي في كثيرٍ من الأحيان يتفوّق بتأثيره على المعاملة وإيقاعها، ولنا أن نستخلص العبر من الشواهد القرآنية السالفة الذكر ، ومن كثيرٍ من الأحاديث الشريفة كالحديث الذي سأل به معاذٌ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : و هل نؤاخذ بما تقوله ألسنتنا يا رسول الله ؟ فأجابه صلى الله عليه و سلم : (( ثكلتك أمك يا معاذ , و هل يكب الناس على وجوههم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم )) .
وللحديث وجهان ؛ أحدهما الغيبةُ وآثامها ، وثانيهما .. إيذاء مشاعر المستمع بما لا يليق ..
وإنني إذ أتحدث عن بعض معالم اللُّطف النبوي ، سأثبت في هذا البحث مثالاً للقياس والإتباع .. وما أحرى الأسوة الحسنة أن تكون في خير خلق الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، الذي وصفه بارئ الكون بقوله سبحانه : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) } . القلم ..
أفلا يكون بعد هذه التزكية الإلهية أحق من يحتذى في العلمين ..؟!
وللمتأمل أسوق هذا الإهداء المتناهي باللطف والحشمة ، حين قال عليه الصلاة والسلام لصحابيٍ مقبلٍ على الزواج ما معناه : ((يا فلان خذ هذا الثوب هديةً لعروسك يستر عظامها )).
والشاهد هنا يحتشد في عبارة ( يستر عظامها ) ، لأن الثوب يليه اللحم وليس العظام ..
فذكر لحم المرأة يفتح أبواب الخيال الشيطاني على تفاصيل غايةٍ في الفتنة مما يثير غريزة الاستقصاء والتّصور .. فتتأهب المشاعر ، وتنطلق من عُقْلها الشياطين ..
أما وقد استعرضت جانباً ربانياً .. وآخر نبوياً من جوانب تأثير الكلمة في النفوس ، فإن اللغة لا تنحصر في حدود الحرف ، ولا في لانهائيات النصوص ..
فاللغة أحد أغصانها الكلام سواءٌ كان منطوقاً أو مقروءاً ، أو مسموعاً .. أما بقية فروعها فلا يتّسع امتداد هذا البحث لجذرها المتمثل في كلّ مدلولٍ يفصح عن مفهومٍ تواضعت عليه الناس .. فكان حقاً علي أن أسوقُ بعضاً منها .. إثراءً للبحث وأملا باستيفاء الشاهد ، وبلوغ الهدف ، ولو على رِجْلٍ واحدة ..
يتبع إن شاء الله.
أحمد الشيخ علي.
بيوت من زجاج:
بحث ذو صبغة أدبية, غايته النفس, يرصد المؤثرات الروحية والمادية, والطبيعية, والمسلكية, في أربعة أجزاء يستهل أولاها, بمختارات من كلام بديع السموات والأرض, ويثني بباقة من كلام المصطفى, ويثلث ببعض أدوات الأدب, ونختم, ليبوح بعد ذلك كل جزء بما يكتنز من مؤثرات نفسية لا يقل دورها عن الخبز والماء والهواء...من أجل الحياة!
وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟!
هو أكرمُ الخلق, خُلِقَ له الخلقُ, وتزلفته,ملكوتُ السموات والأرض... وكثيرا لا يرضى!
مشاعره أرق من الهواء, وأكثر حِدّة من نفاذ الضوء في الفضاء.
تميته كلمة, ويميت أمة بكلمة!
هو الذي سجدت له الملائكة وأبى أكثر الناس لله السجود!
فما الذي يتناغم وفطرته, وما الذي يتقاطع؟
في بيوت من زجاج سنتعرض لنفحات وأعاصير المؤثرات لنرصد أكثرها أهمية, فيحيا بها الإنسان, وأكثرها ضررا لنتحاشاه تحاشي المرض المييت!
في بيوت من زجاج: ليس من النافلة في شيءٍ القولُ بأن المشاعر الإنسانية أشبهُ بالبيوت الزجاجية غير (المسكرتة) .. إلا فيما ندر ..
ذلك لأن الانعكاسات النفسية لموقفٍ مّا لا يمكن إلا أن تحدث دوائر ارتداديةٍ في مستنقع المشاعر الراكد ..
وبديهيٌ أن تتفاوت هذه الارتدادات بحسب المساحة الراكدة وبحسب المقذوف, ابتداءً من مثقال حبةٍ من خردل .. وانتهاءً بمثقال قنبلةٍ ذكيةٍ تذهب بالمشاعر وأهلها بأسرع من ردة الطّرف ..
وكم من الأفعال والأقوال التي تقع على المشاعر وقوع الصاعقة في يومٍ ماطرٍ عاصف ..
وبما أن لكل مخلوقٍ آدميٍ مشاعرُهُ ، وأحاسيسه ، وبما أنه يندرج تحت : " كما تدين تُدان " ، و:" كما تسلف تستوْفي " .. فمن العقل والبداهة أن يراعي كلَّ إنسانٍ مشاعر الآخر أو الآخرين ..
ولأنه مثلما يملك مقومات المبادرة للإثارة والتأثير الآن .. سيكون سواه الذي اكتوى بناره في موقع المبادرة في زمنٍ مّا ، وبطريقةٍ ما ..
حتى وإن لم يكن ضحيتّهُ مُبادراً .. فسيكون غيره من الذين يملكون فوق ما يملك ، ويرد لصاعه صاعين أو أكثر .. وعلى القياسِ ؛ وبشر القاتل بالقتل ولو بعد حين ..
وما أكثر أشكال القتل المعنوي وأدواته كالظلم ، والكبْت ، والحرمان ، والتهميش ، والإتباع ، والاستغلال بأنواعه التي لا تحصى ..
وهذا ما يجعل القتل المعنوي في الصدارة لأنه قتلٌ بالتقسيط المُريح .. ومدى الحياة أحياناً ..
ولعل فيما سبق تقديمٌ وافٍ لبحثٍ متشابك العناصر ، ومتعدد الروافد إلى درجة يستحيل على حاصٍ موسوعيٍ الإحاطةُ بها ؛ وذلك لشمولها على كامل منصات الإطلاق الحياتية التي تصوب جميعها إلى هدفٍ واحدٍ وحيدٍ ألا وهو المشاعر الإنسانية ..
تلك التي أبدعها الخلاق العظيم على هيئةٍ مطلقةٍ تستطيع التعامل مع الوافد المؤثر أياً كان ، وعلى أي وجهٍ كان ، ومن أي مصدرٍ كان .. سواءٌ من أقصى السلبية المجزعة ، أو من أقصى الإيجابية المفعمة بالسعادة والأمل .. وما بين الحالتين القطبين مدارجُ تستوعب طبائع ومشاعر الإنسان من المهد إلى اللحد ..
وإنني أرى أنه من المناسب أن أتطرق إلى بعض مصادر التأثير النفسيِّ والتي لا أجد بالمطلق شيئاً منها يتقدم على القرآن الكريم المعجز .. الذي أحكم الخلاق العظيم آياته فكانت في صميم أولي الألباب إلى قيام الساعة ..
وإذا كان للكلمة من فضلٍ فكفاها بديعُ السماوات والأرض صدارةً أشبه بصدارة الشمس على سائر الكواكب ..
فهي المنطلق مبنىً ومعنىً ، ومن أجل ذلك افتتح بها رب العالمين خاتمة الرسالات وذلك في قوله تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) } . سورة إقرأ .
ولأن القراءة تختزن أمهات المعارف وأصولَها, كان من لُطف ربِّ العلمين بعباده أن عظمها لتشرق بها شمسُ المعرفة من جديدٍ .. بإقرأ ..
ويقيني أن أقل المتأملين أمثالي .. لا يعودون من منهل القرآن الكريم إلا وقد تزودوا بغيثٍ يديم المئونة ، ويستر العورة ، ويضمن سلامة المسير .. وعلى الله القبول ..
وللمثال لا الحصر بعدما قدمنا بإقرأ .. سأجتزئُ من القرآن الكريم بعضه مثل قوله تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)}. النحل .. يوجد شاهد آخر
وقوله تعالى : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) } . فصلت ..
وقوله تعالى : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) } . آل عمران ..
وقوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) } . البقرة ..
وقوله تعالى : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) } . طه ..
وقوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) } . الزمر ..
ولو كان لمنصفٍ خصّبَ الإيمانُ قلبَه أن يقول فلا أظنهُ إلا أن يردد كلام بارئ الكون حيث قال سبحانه : { إنما بذكر الله تطمئن القلوب } .
وإذا اطمأنت القلوب زكت النفوس ، وتنوّرت العقول ، وخشعت الجوارح ، وعاش صاحبها تقياً عزيزاً كريماً عالي الهمة كله في سبيل ربه .. رسولا هادياً مهدياً .. لا يذلُّ إلا للعزيز الجبار .. رأسٌ في كل حياته وهو إمامٌ ومن خلفه العالمين ..
على أن للمعاملة الحسنة لُغةٌ بليغةٌ لا تقل عن لغة الكلام ، ومن ذلك قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)} . البقرة ..
والقرآن الكريم بوجهيه في ترغيبه وترهيبه .. تأثيرٌ بالغٌ لمن ألقى السمع وهو شهيد ..
وما الآيات التي تخاطب القلوب والعقول .. إلا شموسٌ في قلب الضُّحى لكل بصيرٍ من مثل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) } الحج ..
وللمزيد من تسليط الضوء على التأثير القرآنيِّ أحيل القارئ إلى بحث " البنيوية المعجزة " الذي يتناول ألفاظ نهايات الآيات ، ويربطها بأسماء الله الحسنى ، ويشير إلى عظيم تأثيرها في النفوس ، والقلوب ، والعقول ..
وإذا أخذت الأولوية ببعض الكلام المعجز الجامع .. فإنها على الترتيب ستثني ببعض قول الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي نُصر بالرعب ، وأوتي جوامع الكلم .. وكُلُّ قوله وفعله حكمةٌ ومنهجٌ وتوجيه ..
ومما جاء في الهدي النبوي الشريف " تبسُّمك في وجه أخيك صدقة " ، " ومسْحُك على رأس اليتيم صدقة " ، " وزيادة مرق طعامك لإهداء جارك المحروم صدقة " ، " ومن كان في حاجة أخيه .. كان الله في حاجته " ، " ومن فرّج على مؤمنٍ كربةً .. فرج الله بها عنه كربةً من كرب يوم القيامة " .. وكثيرٌ كثيرٌ مثل ذلك مما يشكل جبراً للخواطر ، وتمتيناً للأواصر ، وتطييبا للنفوس ، وتعظيما لمبدأ الإيثار والعطاء ، والتراحم بين الناس ، وحسن الخلق الذي أمر به ، وحضّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : (( خالق الناس بخلقٍ حسن )) .
وحسن الخلق بكل تأكيدٍ يشتمل على القول والعمل معاً .. وإذا قدمنا بشواهد حسن المعاملة سنختم بحسن القول الذي في كثيرٍ من الأحيان يتفوّق بتأثيره على المعاملة وإيقاعها، ولنا أن نستخلص العبر من الشواهد القرآنية السالفة الذكر ، ومن كثيرٍ من الأحاديث الشريفة كالحديث الذي سأل به معاذٌ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : و هل نؤاخذ بما تقوله ألسنتنا يا رسول الله ؟ فأجابه صلى الله عليه و سلم : (( ثكلتك أمك يا معاذ , و هل يكب الناس على وجوههم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم )) .
وللحديث وجهان ؛ أحدهما الغيبةُ وآثامها ، وثانيهما .. إيذاء مشاعر المستمع بما لا يليق ..
وإنني إذ أتحدث عن بعض معالم اللُّطف النبوي ، سأثبت في هذا البحث مثالاً للقياس والإتباع .. وما أحرى الأسوة الحسنة أن تكون في خير خلق الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، الذي وصفه بارئ الكون بقوله سبحانه : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) } . القلم ..
أفلا يكون بعد هذه التزكية الإلهية أحق من يحتذى في العلمين ..؟!
وللمتأمل أسوق هذا الإهداء المتناهي باللطف والحشمة ، حين قال عليه الصلاة والسلام لصحابيٍ مقبلٍ على الزواج ما معناه : ((يا فلان خذ هذا الثوب هديةً لعروسك يستر عظامها )).
والشاهد هنا يحتشد في عبارة ( يستر عظامها ) ، لأن الثوب يليه اللحم وليس العظام ..
فذكر لحم المرأة يفتح أبواب الخيال الشيطاني على تفاصيل غايةٍ في الفتنة مما يثير غريزة الاستقصاء والتّصور .. فتتأهب المشاعر ، وتنطلق من عُقْلها الشياطين ..
أما وقد استعرضت جانباً ربانياً .. وآخر نبوياً من جوانب تأثير الكلمة في النفوس ، فإن اللغة لا تنحصر في حدود الحرف ، ولا في لانهائيات النصوص ..
فاللغة أحد أغصانها الكلام سواءٌ كان منطوقاً أو مقروءاً ، أو مسموعاً .. أما بقية فروعها فلا يتّسع امتداد هذا البحث لجذرها المتمثل في كلّ مدلولٍ يفصح عن مفهومٍ تواضعت عليه الناس .. فكان حقاً علي أن أسوقُ بعضاً منها .. إثراءً للبحث وأملا باستيفاء الشاهد ، وبلوغ الهدف ، ولو على رِجْلٍ واحدة ..
يتبع إن شاء الله.
أحمد الشيخ علي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق