بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 21 أغسطس 2017

هل هى صلاة أم سيمفونية الطبيعية... بقلم الكاتب الكبير د حسن صابر

هل هى صلاة أم سيمفونية الطبيعية
كتب دكتور/ حسن صابر

في مدينة دبي اسكن في مجمع سكني أشبه بالحديقة الغنَّاء ، فالأشجار تحيط بالنوافذ والبلكونات ، وتمتد المساحات من العشب الأخضر حول البنايات كأنها بساط سندسي يسعد الناظرين ويريح الأعصاب ، وفوق هذه الأشجار تعيش مجموعات من الطيور المغردة كالعصافير والحمام ، تولدت بيني وبينهم علاقة إرتباط غريبة دفعتني لمحاولة التعرف على بعضٍ من أسرار حياتهم وعاداتهم اليومية ، فإنبهرت بهم ، وتمنيت لو أن الله منحني قدرة التخاطب مع الطيور والحيوانات كالتي منحها لنبيه سليمان لأتكلم مع هذه العصافير الجميلة التي تعشش فوق الأشجار المحيطة بمسكني .
وقد إعتدت على سهر الليل أقرأ وأكتب حتى موعد آذان الفجر ، فأصلي ثم أحاول النوم الذي أصبح في ندرته وعدم إستقراره مشكلةً كبيرة بالنسبة لي تماماً كالدولار بالنسبة لمصر، وفي إحدى الليالي التي لم أستطع فيها دفع السعر المرتفع للنوم ، كان الليل هادئاً والعصافير نائمة على أفرع الشجر ، ولا أسمع صوت عصفور واحد شذ عن مجموعته وغرَّد منفرداً ، فجأة إرتفعت أصوات العصافير في حيوية ونشاط معلنةً عن بِدْءِ يومٍ جديد ، وبعدها بثلاث دقائق يرتفع عن بعد صوت المؤذن وهو يؤذن لصلاة الفجر ، فيزداد صوت العصافير إرتفاعاً ويبقى التغريد أو الزقزقة لمدة عشرين دقيقة يهدأ بعدها حين تبدأ الصلاة ويرتفع صوت الإمام بآيات من القرآن الكريم ولا أسمع إلا صوتاً هادئاً من العصافير وكأنها تصلي أو تسبح ، ولَم لا فقد قال الله في الآية 44 من سورة الإسراء :
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }ا
ويستمر هذا الوضع حتى تنتهي صلاة الفجر فيرتفع مرة أخرى صوت العصافير حتى شروق الشمس ، ثم تهدأ وتبدأ في الطيران والتنقل من فرع لآخر من فروع الأشجار في هدوءٍ لا يقطعه سوى تغريدة موسيقية من عصفورٍ واحدٍ تبدو كأنه يغني أحياناً منفرداً Solo وأحياناً ثنائياً Duet بمشاركة عصفورة أخرى ، ويبقى هذا الهدوء حتي يقترب النهار من نهايته ثم يتكرر عند الغروب نفس المشهد الذي حدث في الفجر ، لكن العصافير عند الغروب تعلن نهاية الْيَوْمِ والخلود إلى الراحة والنوم إستعداداً ليومٍ جديد ، وعندما تظلم الدنيا ويسدل الليل ستاره على ما حولنا ، لا أسمع صوتاً لعصفور حتى يحين موعدُ فجرٍ جديد .
وللوهلة الأولى أحسست أن صوت العصافير لا يزعج الصاحي أو النائم ، فالصاحي يسعد بهذا الصوت ويشعر بالنشاط والحيوية ، والنائم يسترخي على أصوات العصافير وتستريح أعصابه ، ربما أن تردد صوت العصافير متوافق مع القدرات السمعية للإنسان ولهذا لا يسبب له الإزعاج ، ودعوني آمل أن يهتم المتخصصون في علم نظام الأصوات Phonetics أو علم الأصوات الكلامية Phonology بهذه الظاهرة ، وقد شعرت أن هناك قانون ينظم حياة هذه الطيور وأنها أكثر إلتزاماً بقوانينها من إلتزام البشر بقوانينهم .
وفي ليلة كنت متعباً ومريضاً ، داعبني النوم قبل موعد صلاة الفجر بساعة واحدة ، وخشيت إن بقيت لموعد الصلاة وتوضأت أن تنعشني مياه الوضوء وتذهب عني النوم الذي أكاد أن أتسوله كل ليلة ، فإستسلمت للنوم أو للشيطان لا أعرف ، ونمت نوماً عميقاً ، وفي الموعد المحدد لآذان وصلاة الفجر إرتفعت أصوات العصافير بشدة ، لم أعهدها من قبل تزقزق عالياً هكذا ، كأنها تصيح علىَّ أو غاضبةً مني ، ثم بعد دقائق معدودة سمعت آذان الفجر ، فإنتفضت من مرقدي ، وشعرت أن الله ربما أرسل لي هذه العصافير حتى توقظني لأداء صلاة الفجر أو ربما أنا أتوهم ذلك ، وأنا أحب أن آخذ بالإحتمال الأول فذلك يريحني ويسعدني أن أصدق أن الله هو من بعث العصافير لإيقاظي ، فتلك نعمة أصبو إليها ، وبشرى بالجنة أحلم بها . . توضأت وصليت ركعتي الفجر ، وشعرت بالإمتنان لهذه العصافير الرقيقة الجميلة لأنها أيقظتني من نومي ، ونزعتني من غواية الشيطان لي بأن أكمل نومي ، فقررت أن أذهب إلى البلكونة لأجلس فيها قريباً من الأشجار والعصافير وأستمتع بتغريدها ، فإنبهرت بالنظام والتناسق في زقزقة العصافير وهديل الحمام . . وكما نسمع في السيمفونيات الكلاسيكية ، كيف أن كل آلة موسيقية تلعب في توقيت محدد إما منفردة Solo أو ثنائية Duet أو مجتمعة في مجموعة Orchestra حسب نوتة موسيقية مكتوبة أمام العازفين أو محفوظة لهم ، كذلك فقد سمعت تغريد العصافير وهديل الحمام في نظام موسيقي بديع مرتبط بتوقيت ظهور ضوء الفجر وضوء الشمس ، بل لا أبالغ إذا قلت أن الكونشيرتو Concerto أي الحوار الموسيقي بين آلة موسيقية منفردة ومجموعة الآلات الموسيقية مثل الكمان والأوركسترا ، أو البيانو والأوركسترا ، قد سمعته في تغريدة عصفور واحد وتغريدات مجموعة من العصافير ، والكونشيرتو قد يكون أيضاً بين آلة موسيقية واحدة وآلة موسيقية أخرى مثل الكمان Violin ، والبيانو Piano ، وهذا أيضاً سمعته في تغريدة عصفور مع تغريدة عصفور آخر . .
وتستمر هذه الموسيقى الجميلة من تغريدات العصافير بدءاً من وقت الفجر وحتى شروق الشمس ، ثم تصمت العصافير برهة من الوقت يرتفع فيها صوت هديل الحمام ، وكأنه موسيقى خشنة عميقة مثل موسيقى الكونترباص وهى الآلة الموسيقية الضخمة التي تكاد تنقرض من الموسيقى العربية بعد وفاة عبده قطر ، وعباس فؤاد وهما عازفا الكونترباص اللذان شاركا أم كلثوم في أغانيها البديعة ، بعد ذلك تشارك العصافير الحمام في الغناء ، وتختلط زقزقة العصافير مع هديل الحمام في تناسق بديع كأنه نوتة موسيقية ، وتستمر هذه السيمفونية الجميلة حتى تبدأ حركة الإنسان بأصوات مزعجة تصدر من محركات السيارات ، وهنا تنتهي السيمفونية ويتوقف هديل الحمام وزقزقة العصافير ، ولا أستطيع أن أسمع بعد ذلك إلا نغمات قصيرة ضعيفة سريعة أثناء طيران العصافير وتنقلها من غصن شجرة لآخر . . تُرَىٰ هل حَرَمَ الله الإنسان من فهم لغة الطيور وحَرَمَهُ من دخول عالمهم البرئ والتخاطب معهم حتى لا ينقل إليها الفوضى الصوتية والأخلاقية التي يعيش فيها ، فالعصافير خلقها الله لتملأ الحياة بالجمال ، وتكون مثلاً للنظام والإنضباط ، فالحمد لله أنه سبحانه قد خصً النبي سليمان بالقدرة على التخاطب مع الطيور دون سواه من البشر .
ويستمر هذا الوضع طوال اليوم إلى أن يقترب موعد غروب الشمس ، فيتكرر نفس ما حدث من العصافير وقت بزوغ الفجر ، وترتفع زقزقة العصافير وتنشط كلها في التغريد أو العزف إلى أن يحلَّ الليل فإذا بالعصافير تغمض عينيها وتنام واقفة على الأغصان دون أن ترقد على ظهرها أو جانبيها ، حتى يحل موعد الفجر فتبدأ يوماً جديداً . . نظام عجيب في دقته وإنضباطه ، لا يتكرر إلا في أوقات الفجر والمغرب فقط ، فهل تلك علامة على أهمية صلاة الفجر والمغرب لمن يعقلون ؟
تذكرت عندما كنت أقف أمام نافذة حجرتي بالفندق في الحرم المكي أثناء تأدية العمرة أطل على الكعبة وأتابع طواف المعتمرين حولها ، فإذا بي أشاهد حمامة جميلة تقف خارج نافذتي على حافة المبنى ، وكانت تطل برأسها في إتجاهٍ بعيدٍ عن الكعبة ، بينما كان جانبها مواجهاً للكعبة . . فجأة أذن المؤذن لصلاة العصر فإذا بالحمامة تستدير لتكون مواجهة للكعبة برأسها ، وبقيت على هذا الوضع حتى بدأت الصلاة ، فإذا بها تحني رأسها كما نفعل نحن في الركوع والسجود ، وكنت مندهشاً لما أراه . . وبعد أن إنتهت الصلاة طارت الحمامة ولم أراها بعد ذلك .






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق